السياق
SNR00267
عبد المجيد عريفي
عالم أجناس، المعهد المتوسطي لعلوم الإنسان(USR 3125) جامعة أكس-مرسيليا (AMU)
خوان غويتيصولو. مثقف ساحة جامع الفناء (مراكش)
" الفضاء الثقافي لساحة جامع الفناء التي أعلنتها اليونسكو من روائع التراث الشفهي وغير المادي للبشرية. تقع ساحة جامع الفناء في قلب المدينة، وهي ملتقى ثقافي وفني حقيقي، بل ومكان لقاء للشعب وكذا للرواة، هواة الألعاب البهلوانية، الموسيقيين، الراقصين، سحرة الثعابين وآخرون من المعالجين والعرافين. هي أيضاً مكان للتجارة والمتعة وكذا نموذج للتخطيط الحضري الذي يعطي الأولوية للسكان وللثقافةو اللقاءات والتبادلات.
تمثل هذه اللافتة ذكرى:
الاعتراف العالمي بالثراء الاستثنائي لهذا المكان، والرمز الذي يمثله "
وبهذا تبين هذه الأسطر المنحوتة في رخام لافتة موضوعة إلى جانب ساحة جامع الفناء، للمارة جودة التراث العالمي للمكان المعلنة في 2011. و ليس خوان غويتيصولو بغريبٍ عن مثل هذا التعهد، فهو نوع ما الوعي النقدي.
منذ أول زيارة له للساحة وقبل أن يناضل من أجل الحفاظ عليها، سلط الضوء في كتاباته على الموروث الشفوي الذي يسكنها ويجعل منها بعداً إسقاطياً في عالم تحكمه سيادة الكتابة متحدياً اياها بواسطة السمعي البصري (الإذاعة و لاحقاً التلفزيون و تكنولوجيات الاتصال الجديدة). إلتزام إنساني وأدبي أنتج أجمل الصفحات المكتوبة عن هذه الساحة المشبعة أصلاً بالكلمات والصور والأوهام والكتابات والأفكار النمطية... عرف كيف يجسد حيوية هذه الثقافة الشفوية في الفعل الأدائي والإبداعي لمختلف الشخصيات التي تحركها. وعرف كيف يقرأ حتى جلدها الأسفلتي و ثراءها الإنساني المعبر دون الوقوع في سهولة الغرابة التي أخذها من جامع الفناء.
كما أن تفكيره حول الشفوية يسائل أيضاً كتابته والثقافة والنوع الأدبي. " كما يبينه ميخائيل باختين في تحليله القيم لأعمال رابولي، كان وقتاً إختلط فيه الواقع بالخيال، حيث تحل الكلمات محل الأشياء التي تعينها، حيث كان للكلمات المخترعة وجودها الخاص: كن يكبرن، يتطورن، يتزاوجن ويتوالدن مثل كائنات من لحم ودم. فكانت الأسواق والساحات الكبرى والأماكن العامة المكان المثالي لتنميتها: تختلط الخطابات، تحيا الأساطير من جديد، والمقدس كان موضوعاً للسخرية دون أن يفقد طبعه المقدس، وكانت المحاكاة الساخرة متصالحة مع القداسة، والحكايات الجيدة تثير إنتباه وتشويق الجمهور، ويختلط الضحك مع النبالة حيث ينتهز البهلواني أو الإستعراضي الفرصة لمد وعائه وجمع بعض الدراهم.
"(...) تحت ضوء المصابيح الزيتية، ظننت انني لمحت وجود رابليه، وأسقف هيتا وشوسر وإبن زيد والحريري والعديد من الدراويش."[1] على عكس الأخوان تارود، الذين كرسا فصلاً من كتابهما لهذه الساحة مراكش أو أرباب الأطلس، المعنون " الساحة المجنونة"، يشير غويتيصولو إلى الحكمة الساحقة لشفوية شعبية ضد استبدادية الكتابة المقدسة.
"يؤدي بي المد دائماً إلى ساحة غريبة، حيث يتوقف أولئك الناس الريفيون الذين يتجددون يومية، وينحنون جالسين حول أشياء تسرهم وتشدني أنا أيضاً، لمدة ساعات، منتبهاً مثل جاهلين قبال كتاب قيم مفتوح"[2]. يكتب الأخوان تارود عن جامع الفناء في إطار الفتنة و عدم فهم المشاهد والمواقف التي تضاعف اهتمامهم وشوقهم للساحة الغريبة.
في حين يتعلم خوان غوتيصلو اللهجة المغربية ويتحاور مع الناس البسطاء و حلايقية الساحة. هو سابق لوقت الفضولية المسلية والمفتونة ليدخل في حوار مع الساحة ورجالها بنظرة تحليلية لممارستها الأدبية. في شرفة مقهى "فرنسا"، قرب ساحة جامع الفناء، يفتح طاولته للضيافة وللتجارة الإنسانية مع الحلايقية.
سيقول أن " جامع الفناء عبارة عن كتاب شفوي كبيرٍ "يكتبه" الأميون"
ينمي خوان غويتيصولو بالإتصال مع جامع الفناء، تفكيراً محفزاً حول الشفهية واشكالها التاريخية. يستعير من والتر انج 3 فئتين من التقسيم الزمني للشفهية التي درسها هذا الأخير: الشفهية الأولية، الشفهية الثانوية وأضاف اليهما الشفهية الهجينة.
يتبين لي أن الشفهية الهجينة هي أفضل وصف لساحة جامع الفناء اليوم ، فضاء مشبع بالإشارات والرسوم البيانية والصور والأشياء والكتابات – ثقافة متعدة الأشكال بأكملها، الملموسة وغير الملموسة، معززة بأصوات حية تؤديها بسرد مبتكر في عروض حيث يؤخذ الجسد في إقليم إطار حساس.
ولد خوان غويتيصولو في برشلونة عام 1931, وإختار درب المنفى في 1950 هارباً من الطاغية فرانشيسكو فرانكو. إستقر في مراكش منذ نهاية الستينات، الأمر الذي يعتبر مرحلة نبيلة في خريطة مدن ترحاله الملتزم.
" إسباني في كتالونيا، متفرنس في إسبانيا، لاتيني في أمريكا الشمالية، مسيحي في المغرب، أينما اذهب غريب، كنت أكاد أن أصبح من اولئك الكتاب الذين لا يطالب بهم أحد بسب ترحالي وأسفاري، كشخص غريب وعدائي للعشائر والجماعات (...) الحرية والعزلة هما مكافأة كل مبدع غارق في ثقافات متعدة ودون حدود، مهاجر بملء ارادته إلى البلد الذي يلائمه، دون أن يتعلق بأحد."
[3] أمام العولمة والشركات الثقافة المتعددة الجنسيات، مثل مؤسسة والت ديزني التجارية التي، حسب غويتيصولو، "تغتال مخيلة ملايين الأطفال في جميع أرجاء العالم."، أمام إزدراء "كل ما لا ينبع من المعايير التنافسية التي لها تأثير على القرية الكونية"، خوان غويتيصولو المراكشي بالتبني كان المبادر لمفهوم الموروث الشفهي للإنسانية، مفهوم إتخذه اليونسكو و طبقته للمراة الأولى على جامع الفناء بعد صدور المقال، "فضاء سحري من المؤانسة. جامع الفناء، موروث شفهي للإنسانية" في مجلة "العالم الديبلوماسي" (Monde diplomatique)في جوان 1997.
"إن التأثير على سبرانية السمعي البصري تسوي بين الناس والعقول و"تديزن" (من ديزني) الطفولة وتوقف نمو القدرات التخيلية. فقط المدينة بإمكانها أن تحتفظ بشرف إيواء الموروث الشفهي الزائل للإنسانية، الذي يصنف من الكثير بإزدراء العالم الثالث. أريد أن أتكلم عن مراكش، وعن ساحة جامع الفناء التي اكتب على حوافها منذ أكثر من عشرين عاماً على فترات منتظمة، وأتجول وأعيش." في مقاله "فضاء سحري من المؤانسة. جامع الفناء، موروث شفهي للإنسانية"الصادر في مجلة "العالم الديبلوماسي" (Monde diplomatique)في جوان 1997، يطلق علملية مشروع قادم ألا وهو تكريس اليونسكو للساحة.
" إن تبني اليونسكو لوجهة نظر جديدة للموروث الشفهي غير الملموس، يفتح المجال للحفاضه على الثقافة الشفهية لمئات اللغات التي تفتقر إلى الكتابة وتحفز الدراسة الدياكرونية لعدد لا يحصى من التقاطعات والحالات الوسيطة مما يؤدي إلى تأثير الكتابة والطباعة وقدها الوسائل السمعية البصرية وتكنولوجية المعلومات الجديدة، على التعبير الشفوي.
انها مهمة عاجلة نظراً للحجم الكبير لفسيفساء اللغات وتعقيدها وللثقافات المهددة بالزوال، في أمريكا الاتنية مثل في إفريقيا، أو في آسيا واوقيانيا. لذا يجب علينا أن نتعامل مع هذه القضية بوعي تام للمخاطر المتكبدة: هذه الثقافات و اللغات يمثلن الموروث الحي، وينبغي أن لا نقع في فخ "تتحيفها" بتقمص شخصية علماء الآثار الذين، كما قال أحد المفكرين المكسيك: " يعتبرون الشعوب حفريات ثقافية". يجب على عملنا إذن أن يتم بخفية وتستر وذلك بالحفاظ على الثقافات المتعددة لثلاث ألف لغة متحدث بها في العالم، وعلى "كنوزها الحية"، وأن يستثني إنشاء "احتياطيات محلية" إلا في حالات الضرورة القصوى، بمعنى آخر لما يتعلق الأمر بإخراج شهادة وفاة بعد تسجيل وتصوير معانتهم للمتاحف الأنثربولوجية للبلدان الكبرى في العالم.
ولتحقيق ذلك، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار درجات الشفهية الأولية المتفاوتة التي تعترضنا، وكذا مظاهر تهجين الموروث الشفهي غير الملموس، التي حافظت عليها التقاليد عبر العصور. هذا تحد موجه لجميع المنظمات الحكومية التي تهتم بالتنوع البيولوجي للعالم، تنوع أثر فيه بشدة التوحيد الذي تفرضه قوانين "القرية" الكونية والأصوليات التكنوجية العلمية"
[4]
المراجع
Juan Goytisolo, Makbara, Paris, éd. du Seuil, 1982.
Juan Goytisolo, Un espace magique de sociabilité. Jemaa-el-Fna, patrimoine oral de l’humanité, Le Monde diplomatique, juin, 1997.
Jérôme et Jean Tharaud, Marrakech ou les seigneurs de l’Atlas, Paris, Plon-Nourrit, 1920.
Walter Ong, Orality and Literacy: The Technologizing of the Word, London and New York: Routledge, 1982; Rhetoric, Romance, and Technology, Ithaca and London: Cornell UP, 1971.
[1] Juan Goytisolo,
Un espace magique de sociabilité. Jemaa-el-Fna, patrimoine oral de l’humanité, Le Monde diplomatique, juin, 1997
[2] Jérôme et Jean Tharaud,
Marrakech ou les seigneurs de l’Atlas, Paris, Plon-Nourrit, 1920, p. 99.
[3] Juan Goytisolo,
Chasse gardée, Paris, Fayard, 1985, pp. 41-42
[4] Juan Goytisolo,
Jemaa el Fna patrimoine orale de l’humanité, Extraits du discours d'ouverture de la réunion du jury pour la proclamation des chefs-d'œuvre du Patrimoine Oral et Immatériel de l'Humanité.